تسجيل الدخول


العودة   منتديات الكعبة الإسلامية > القسم الشرعى > منتدى العقيدة الإسلامية

منتدى العقيدة الإسلامية كل ما يختص بالعقيدة الإسلامية - توحيد الألوهية توحيد الربوبية توحيد الأسماء والصفات والإيمان و أركانه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-08-2012, 07:52 PM   #1
عمر محمد
مرشح للاشراف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2012
المشاركات: 37
معدل تقييم المستوى: 0
عمر محمد is on a distinguished road
افتراضي دروس في العقيدة الإسلامية 7

المحاضرة السابعة
علة تصنيف التوحيد إلى نوعين أو ثلاثة

بسم الله الرحمن الرحيم
· العلة في تصنيف التوحيد إلى نوعين عند السلف .
أولا: بناء على معنى الإسلام والإيمان .
المعروف بين الصحابة والتابعين مصطلح الإسلام والإيمان والإحسان، عرف النبي S الإسلام بالأركان الخمسة، وعرف الإيمان بالأركان الستة وجعل الإحسان رابطا بينهما، بمعنى أن يكون الإسلام الحق عن عقيدة وإيمان، ولا يعني ذلك أن نوعي التوحيد لم يكونا معروفين بين الصحابة والتابعين، فهم يعلمون أن الإسلام الذي ورد تعريفه في حديث جبريل هو في حقيقته توحيد العبادة لله وإفراده بها، فالإسلام هو الخضوع والاستسلام للمعبود على وجه المحبة والتعظيم، وهذا تعريف العبادة، أما توحيد العبادة فظاهر من الشهادة التي هي أول ركن من أركان الإسلام فكلهم يعلم أن الإسلام لا يصح إلا بالتوحيد، وأن توحيد العبادة لله هو الإسلام .
كما أن أركان الإيمان التي وردت في حديث جبريل هي في حقيقتها توحيد الربوبية والأسماء والصفات وما يجب على المسلم اعتقاده في باب الغيبيات، وتلك الأركان التي ذكرها النبي S في مصطلح الإيمان بنيت على الإقرار بما نزل في القرآن من تقرير للحقائق العظمى في حياة الإنسان.
كلهم كانوا على عقيدة واحدة في توحيد الله بالعبودية والإقرار بما جاء من عنده سواء في توحيد الربوبية أو الأسماء والصفات وسائر الغيبيات، غير أن الأمر يتطلب مزيدا من البيان للعلة التي من أجلها صنف السلف الصالح توحيد الله إلى نوعين .
ويمكن أن نطرح بعض العلل التي تكشف بجلاء ووضوح صدق ما عليه السلف وبهتان ما يدعيه الخلف من تصنيفات عقلية للتوحيد، وكيف أن تصنيف السلف يتوافق مع النقل والعقل والفطرة السليمة، وأبرز تلك العلل يتمثل في النقاط التالية:
ثانيا: صيانة التوحيد الحق عن توحيد الجهمية.
صٌنف التوحيد إلى نوعين بناء على رد فعلهم على المخالفين، فلما ظهرت الجهمية والمعتزلة كنبتة لا أصل لها في عصر السلف ابتدعوا للتوحيد في اصطلاحهم معنى جديدا غير ما استقر في اعتقاد الصحابة والتابعين وعلماء السلف، فقالوا إن التوحيد هو إثبات الأسماء ونفي الصفات، فجعلوا القرآن عضين يقبلون منه ما يوافق آراءهم الفاسدة ويعطلون ما يخالفها، ومعني قولهم بإثبات الأسماء ونفي الصفات أنهم أثبتوا وجود الذات الإلهية فقط دون إثبات أي صفة لها، أو جعلوا أسماء الله U الدالة عليه فارغة من الأوصاف، أو أسماء بلا مسمى، فقالوا: هو العليم لكن لا يتصف بصفة العلم والسميع بلا سمع وهو البصير بلا بصر، قياسا على من تسمى سعيدا وهو شقي أو منصورا وهو مهزوم أو صالحا وهو طالح .
بخلاف ما استقر في اعتقاد السلف في كون أسماء الله أسماء على مسمى وأنه U الغني الذي يتصف بالغني لا الفقر، والقوي الذي يتصف بالقوة لا الضعف، وهو السميع يتصف بصفة السمع تعالى الله عن ضدها، وهو البصير الذي يتصف بالبصر وهكذا في سائر الأسماء والصفات.
ثالثا: دلالة النصوص على تصنيف التوحيد .
صُنف التوحيد إلى نوعين بناء على دلالة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية جملة وتفصيلا، ففي الجملة كل نص ورد في الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية شاهد لأحد نوعي التوحيد، فالنصوص التي تضمنت الحديث عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يتعلق بتدبيره الكوني، أو عن عالم الغيب وما فيه من مخلوقات، أو ما يحدث في القبر أو سيحدث من أمور الساعة والبعث والحساب والجنة والنار وسائر أمور الجزاء، أو كل ما يجب على المسلم اعتقاده والإيمان به، كل هذه النصوص تمثل شواهد لتوحيد العلم والخبر، أو توحيد المعرفة والإثبات أو أثار الإيمان بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات .
والنصوص التي تضمنت الحديث عن تدبير الله الشرعي وحكمه الديني أو منهج التكليف في الحياة وكيفية عبادة الله، من أمر أو نهي على سبيل الحتم والإلزام، أو أمر ونهي لا على سبيل الحتم والإلزام، أو موقف الناس من تلك الأحكام وجزاؤهم في الدنيا والآخرة، كلها شواهد لتوحيد الألوهية والعبادة وتحقيق لمقتضى النطق بالشهادة التي بعث النبي S من أجلها .
أما على وجه التفصيل فهذه شواهد نذكرها للتدليل والتمثيل يمكن أن يحتذي بها في التقاط الدليل على نوعي التوحيد، ففي أول سور القرآن ورد ما يدل على أن التوحيد نوعان، توحيد الألوهية والعبادة في قوله تعالى: } إِيَّاكَ نَعْبُدُ {، وتوحيد الربوبية في قوله: } وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {، قال ابن عباس t: (يعني إياك نوحد ونخاف ونرجو ربنا لا غيرك، وإياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها)الدر المنثور 1/37 .
ويذكر ابن القيم رحمه الله في هذين الأصلين العظيمين أن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب فالأول من معني ألوهيته، والثاني من معني ربوبيته، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإنابة وإجلالا وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا، والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى مصالحه، فلا إله إلا هو، ولا رب إلا هو فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل فكذلك إلهية ما سواه، وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله: } فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّل عَليْهِ { (هود: 123)، وقوله عن نبيه شعيب: } وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ { (هود: 88)، وقوله U: } وَتَوَكَّل على الحَيِّ الذِي لا يَموتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ { (الفرقان: 58)، وقوله: } وَتَبتَّل إِليْه تَبْتِيلا رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا { (المزمل: 9: 8)، وقوله تعالى: } قُل هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ مَتَابِ { (الرعد: 30)، وقوله عن أتباع إبراهيم u: } رَبَّنَا عَليْكَ تَوَكَّلنَا وَإِليْكَ أَنَبْنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ { (الممتحنة: 4)، فهذه سبعة مواضع تنظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيي التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة ([1]) .
رابعا: التوحيد نوعان باعتبار الخبر والطلب .
لما كان الصحابة هم أهل الفصاحة واللسان وقد خاطبهم الله بنوعي الكلام في القرآن كان منهجهم في مسائل التوحيد والإيمان هو تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، فلو أخبرهم الله عن شيء صدقوه تصديقا جازما ينفي الوهم والشك والظن، ولو أمرهم بشيء نفذوه بالقلب واللسان والجوارح، وتلك هي غاية التوحيد العظمى وطريقة السلف المثلى التي جاهدوا من أجل إثباتها في توحيدهم لربهم، أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه بتصديق خبره، وأن يطيعوا الله فيما أمر على لسان نبيه S، فالأول عندهم هو توحيد الوسيلة وتوحيد العلم والخبر، وتوحيد المعرفة والإثبات والربوبية والأسماء والصفات، والثاني هو توحيد الغاية والألوهية والعبادة والإرادة والشرع والقدر، فهم بقولهم: لا إله إلا الله قد عقدوا في أنفسهم عقدا أن يكون الله U هو المعبود الحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب والذي يطاع في أمره دون عصيان، وتلك حقيقة الإيمان التي نزل بها القرآن وفهمها أصحاب اللسان .
ويذكر أبو بكر البيهقي (ت:458ه) أن حقيقة الإيمان والتوحيد تكمن في تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب، والأمر والنهي كل واحد منهما قول يتردد بين أن يطاع قائله وبين أن يعصي، فمن سمع خبرا واعتقد أنه حق وصدق فقد آمن به، ومن سمع أمرا أو نهيا فاعتقد الطاعة له، فكأنما آمن في نفسه به ... فالإيمان بالله U إثباته والاعتراف بوجوده والإيمان له والقبول عنه والطاعة له ([2]) .
وقد بين ابن القيم أن أساس التوحيد والهداية التي من الله بها على الموحدين يترتب على تصديق خبر الله من غير اعتراض شبهة تقدح في تصديقه، وامتثال أمره من غير اعتراض شهوة تمنع امتثاله، يقول: (وعلى هذين الأصلين مدار الإيمان، وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر ويتبعهما أمران آخران، وهما نفي شبهات الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق وأن لا يخمش بها وجه تصديقه، ودفع شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال الامتثال) ([3]) .
ويقول أيضا: (وأما الدين فجماعه شيئان تصديق الخبر وطاعة الأمر ومعلوم أن التنعم بالخبر بحسب شرفه وصدقه، والمؤمن معه من الخبر الصادق عن الله وعن مخلوقاته ما ليس مع غيره، فهو من أعظم الناس نعيما بذلك بخلاف من يكثر في أخبارهم الكذب، وأما طاعة الأمر فإن من كان ما يؤمر به صلاحا وعدلا ونافعا يكون تنعمه به أعظم من تنعم من يؤمر بما ليس بصلاح ولا عدل ولا نافع، وهذا من الفرق بين الحق والباطل) ([4]) .
خامسا: استخلاف الإنسان في الأرض.
وهذا الوجه مع وضوحه وضح الشمس إلا أنه غير مذكور فيما سبق، قال تعالى عن دور الإنسان وعلة وجوده في الأرض: } وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً { (البقرة /30)، فالآية دلت على أنه مستخلف في أرض الله، والخلافة في اللغة تعني النيابة عن الغير ([5] ولا بد فيها من استخلاف المستخلِف بكسر اللام للمستخلَف بفتحها وتخويله وإذنه له بها، ولا تصح في اللغة بغير هذا، قال ابن حزم: (ومعني الخليفة في اللغة هو الذي يستخلِفُه لا الذي يخْلُفُه دون أن يستخلِفَه هو، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف، تقول: استخْلَفَ فلانٌ فلانا يستخلِفُه فهو خليفَتُه ومستخلِفُه، فإن قام مكانه دون أن يستخْلِفُه هو لم يُقَلْ إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف) ([6]) .
وإذا كانت الخلافة بمعنى التخويل والإنابة، فهل الإنسان خليفة ينوب عن الله في أرضه أم يخلف من سبق بعد موته ؟ وحتى نصل إلى مرادنا في ضرورة تصنيف التوحيد إلى نوعين من خلال معنى الاستخلاف لا بد أن ندرك أن الاستخلاف يأتي على معنيين:
1- استخلاف عن نقص الأوصاف بحكم طبيعة الإنسان ويكون عند عجز المستخلِف عن القيام بملكه أو تدبير أمره، إما لغيابه أو قلة علمه، وإما لمرضه أو موته، كاستخلاف القائد نائبا على جنده وقومه، كما ورد في قوله تعالى عن موسي u: } وَقَالَ مُوسَي لأَخيهِ هَارُونَ اخْلُفنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين { (الأعراف/142) .
2- استخلاف عن كمال الأوصاف، وذلك إذا كان لتشريف الإنسان وإكرامه أو اختباره وامتحانه، وليس لعجز المستخلِف عن القيام بشؤونه .
ولله المثل الأعلى لما قال للملائكة في شأن الإنسان: } إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً { (البقرة/30)، تحقق في الخلافة المعنيان، أن يخلف بعضهم بعضا على وجه النقص، وأن يكون خليفة لله في الأرض على وجه الابتلاء والامتحان، وكذلك يقال في كل آية ورد فيها استخلاف الله للإنسان فإنها تدل على المعنيين معا، أنه خليفة لمن سبق من الذرية عن نقص في الأوصاف البشرية، وخليفة لله على وجه الكمال وإظهار المعاني الشرعية غير أنه لا حول له ولا قوة في معاني الربوبية .
ومن هنا يظهر السر في تصنيف التوحيد إلى نوعين فالله U استخلف الإنسان في الأرض وهو معه يتابعه يراه من فوق عرشه ويسمعه، ولكنه بين أن استخلافه في هذه الدار إنما هو على وجه الابتلاء والاختبار، فهو استخلاف ليس عن غيبة المستخلِف أو عجزه لأن الاستخلاف وإن اقتضى غياب المستخلِف في العادة إلا أنه هنا يكشف سر الإيمان والعبادة بظهور عالم الغيب والشهادة، فالله غيب بالنسبة للإنسان لأن الله جعل مداركه محدودة، فهما غيب وشهادة ليس بالنسبة لعلم الله بخلقه ولكن بالنسبة لرؤية الإنسان لربه، وعلمه بكيفية ذاته ووصفه وفعله، فقال سبحانه في شمولية علمه لكل صغيرة وكبيرة في خلقه: } اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثي وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالليْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ { (الحديد/ 7وقال أيضا: } ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ { (السجدة/6)، وقال في المقابل عن حدود علم المستخلَف ومدي ضعفه: } وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا { (الإسراء/85)، وقال: } قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ { (النمل/65)،فعلم الإنسان مهما بلغ محدود لأن حواسه عليها غطاء وقيود، ومن ثم كان النطق بشهادة الحق أمرا وتكليفا وترك الزور وقول الصدق مدحا وتشريفا، فمن الجهل والعيب ادعاء الإنسان لعلم الغيب أو القول على الله بلا علم .
ومن أجل ذلك أيضا ظهر تكليف المسلم بالتصديق الجازم لكل خبر ورد عن ذات الله وأسمائه وصفاته، وكل ما ورد في القرآن والسنة عن أركان الإيمان وأن يثبت ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله S، وحرم عليه أن يتقول على ربه بوضع أقيسة عقلية يحكم بها على الأدلة النقلية فيأخذ منها ما يشاء ويعطل ما يشاء فيقع في التمثيل والتكييف والتعطيل والتحريف وهذا هو النوع الأول من نوعي التوحيد .
أما النوع الثاني فقد ارتبط باستخلاف الإنسان من جهة أن الاستخلاف مقيد بالخضوع لأمر الله فيما استخلفه واسترعاه، وإظهاره لتوحيد العبودية والعمل في أرض الله بالشريعة الإسلامية، وليس استخلاف الإنسان في الأرض نيابة عن الله في معاني الربوبية أو تخويلا لغيره في إرادته الكونية، سبحانه وتعالى أن يتخذ شريكا له في ملكه أو يتخذ وليا من الذل وينعزل عن خلقه، قال تعالى: } وقُلْ الْحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا { (الإسراء/111)، وقال سبحانه: } قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللهُ خَالِقُ كُلِّ
· العلة في تصنيف التوحيد إلى ثلاثة أنواع .
كل من أقر بتصنيف التوحيد إلى نوعين على اعتبار تنفيذ الأمر وتصديق الخبر أو على اعتبار توحيد الغاية والوسيلة، أو توحيد القصد والطلب وتوحيد العلم والخبر أو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، فسوف يقر ضرورة بتصنيف التوحيد إلي ثلاثة أنواع على اعتبار أن توحيد الربوبية والأسماء والصفات نوعان وليس نوعا واحدا كما سبق.
فعند الفصل بينهما تظهر أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع اشتهرت بين المتبعين لنهج السلف الصالح بحيث غطت شهرتها علي التصنيف السابق بنسبة كبيرة، والباعث على تصنيف التوحيد إلى ثلاثة أنواع يمكن إجماله في النقاط التالية:
الأمر الأول: صُنِّفَ التوحيد عند السلف إلى ثلاثة أنواع على اعتبار وجود تصنيف مبتدع أحدثه المتكلمون من الأشعرية منذ وقت مبكر وأذاعوه بين الناس وانتشر بحكم السطوة والقربة لدى الساسة والأمراء والخلفاء، كما حدث من حمقى المعتزلة عندما أداروا البلاد الإسلامية في عهد مجموعة من خلفاء بني العباس فغيروا وبدلوا في معنى التوحيد، هذا في مقابل ضعف السلف وزهدهم وبعدهم عن قصور الخلفاء والأمراء وأصحاب الأهواء، فالأشعرية صنفوا التوحيد إلي ثلاثة أنواع مبنية لا علي أدلة قرآنية ونبوية كما هو الحال عند السلف ولكن علي دلالات عقلية سقيمة وآراء فلسفية باطلة أطلقوا عليها أصول الدين، قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت:548ه) في بيان أنواع التوحيد عند الأشعرية: (وأما التوحيد فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية: إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له) ([7]) .
وفضلا عن ادعائهم أن الأشعرية هم أهل السنة وسلبهم هذا الوصف عن المنتهجين لطريقة السلف، فقد صنفوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع محدثة لا دليل عليها من كتاب أو سنة، فلم يكن بد من رد الفعل الطبيعي لهذا التقسيم المحدث بنشر تصنيف السلف لأنواع التوحيد وإذاعته وتركيز الضوء على أدلته، المبنية في جوهرها علي الأصول القرآنية والنبوية، وسواء صنف التوحيد إلي نوعين أو ثلاثة أنواع، فإن الغاية المرجوة عند العلماء المخلصين أتباع السلف كانت نشر التوحيد الحق ورد ما أحدثه الآخرون من الباطل، وقد ظهرت سلسلة من الردود المتوالية في مؤلفات كثيرة تدافع عن مذهب السلف وتعيد الناس إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله S، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الباع الأكبر في ذلك، فقد صنفا حشدا هائلا من الردود والمصنفات في خدمة العقيدة السلفية، ويمكن القول إن من أتى بعدهما كان عالة عليهما وعلى ما تركاه من مصنفات .
الأمر الثاني: صُنِّفَ التوحيد عند السلف إلى ثلاثة أنواع على اعتبار معنى التوحيد عندهم وما يتبعه بالضرورة من إثبات معاني الكمال التي انفرد بها رب العزة والجلال عمن سواه، فالتوحيد كما تقدم هو الإفراد، ولا يكون التوحيد توحيدا إلا مع الإثبات، فما الذي انفرد به رب العزة والجلال مما ورد في الآيات من إثبات؟ عند الحصر والاستقصاء يتبين أن الله انفرد بثلاثة أشياء جامعة لا يشاركه فيها غيره:
أولها: انفراده بالربوبية فلا رب سواه ولا خالق ولا مدبر للكون إلا الله كما قال سبحانه وتعالي: } إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلَي الْعَرْشِ يُغْشِي الليْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { (الأعراف: 54)، وثلث آيات القرآن تقريبا يدور حول هذا النوع من التوحيد .
ثانيا: أنه انفرد بالإلوهية والعبادة فلا يقبل الشركة فيها، فإما يُعْبَد وحده بإخلاص وإما يبحث المشركون عن الخلاص، أما أن يَقْبَل من عباده أن يعبدوه ثم يعبدوا غيره معه في آن واحد، فهذا قد يقبله أحد المعبودات الباطلة، أما رب العزة والجلال فهو أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيره تركه وشركه هكذا جاء الحديث مرفوعا عن أبي هريرة t أن رسول الله قال: (قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) ([8]) .
وقال تعالى: } إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ افْتَرَي إِثْمًا عَظِيمًا { (النساء: 48)
وهذا النوع هو حقيقة الشهادة وتجريد التوحيد والعبادة، وثلث ما ورد في آيات القرآن تقريبا يدور حول هذا النوع من التوحيد .
ثالثا: أنه انفرد بالأسماء الحسنى والصفات العلى فكما أنه انفرد بالربوبية والألوهية فإنه أيضا انفرد بالأسماء والصفات فلا سمي له ولا نظير ولا ند له ولا مثيل كما قال سبحانه وتعالى: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { (الشورى: 11) .
الأمر الثالث: صنف التوحيد إلى ثلاثة أنواع بناء على دلالة النصوص القرآنية والنبوية، فالقرآن والسنة إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو توحيد الأسماء والصفات، أو خبر عن قضائه وقدره وحكمته ومشيئته وكمال قدرته وملكه لخلقه وتدبيره لكونه ووصفه لفعله وهذا توحيد الربوبية، وكلاهما مستلزم للآخر متضمن له، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، وذلك من خلال أمر بالعبادات ونهي عن المخالفات، فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة وهو مستلزم للنوعين الأولين متضمن لهما أيضا، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من الوبال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد ([9]) .
ومن الضرورة أن نبين لكل مسلم ما يجب اعتقاده في كل نوع من أنواع التوحيد بالصورة التي تصون اعتقاده عن شبهات المخالفين ودعاوي المبطلين، فكل مسلم يكفيه أن يصدق بخبر الله تصديقا جازما دون شك أو تكذيب، وأن ينفذ أمره عن خضوع ومحبة وتعظيم، كما كان الحال في عهد النقاء والصفاء زمن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولكن مع انتشار الأوبئة الفكرية في المستنقعات التي أحدثها أتباع الجهمية في البيئة الإسلامية حتى عصرنا، يلزم المسلم الصادق أن يحصن نفسه في التوحيد بمضادات اعتقادية وتحصينات قرآنية نبوية كمناعة لهم وحماية من أفكار المخالفين .
· التوحيد عند الأشعرية .
الأشعرية في عصرنا يمثلون الأغلبية في العالم الإسلامي، وذلك ليس عن رغبة معتنقيه من أهل العلم في هذا المذهب، ولكن لكونه واقعا مفروضا في المؤسسات التعليمية في مرحلة التلقي والتعليم منذ الصغر، فهذا المذهب الذي يطلق عليه معتنقوه على زعمهم مذهب أهل السنة ما زال مقررا في المدارس والجامعات في أغلب البلاد الإسلامية، وطالب العلم يدخل منذ نعومة أظفاره إلى المدارس والمعاهد وهو خالي الذهن، فيجد مقررا منفرا غريبا في مادة التوحيد، ويجد المدرسين يلقنونه ويحفظونه أنواعا من التوحيد مبنية على أدلة عقلية بعيدة عن طريقة السلف المعتمدة على ما ورد في الكتاب والسنة، ويستمر الطالب في دراسته حتى يصبح أستاذا جامعيا وهو يجهل حقيقة ما عليه السلف، ولو نوقش في ذلك إما أن يستنكف عن الخضوع للحق لأنه أستاذ صاحب هيبة ومكانة، وقبول الحق عنده يعني إقراره بلوازم يصعب تصورها أو الالتزام بها، وإما يزداد إصرارا على صدق الطريقة الأشعرية ويتمادى في الدفاع عنها بحجج عقلية حتى يستحيل معه النقاش .
والحق يقال أن بعض من يقوم على التدريس للطلاب أو يلخص لهم بعض ما جاء في المقررات أو الكتاب، ربما يشعر بشيء من المسئولية عند فهمه للطريقة السلفية فينبه طلابه على أن ما يدرسونه يجب أن يكون للنجاح في الامتحان وليس للاعتقاد والإيمان الذي يقابل به رب العزة والجلال يوم القيامة .
وقد رأيت ذلك بعيني في بعض الملخصات الخارجية التي تباع للطلاب مما أثلج صدري وأثار في نفسي العجب والاستغراب، ومن هنا كانت أهمية التعرف على التوحيد وتصنيفاته عند الأشعرية والرد عليهم من باب النصيحة لإخواننا من جهة وتحصين طلاب العلم من جهة أخرى .
· أنواع التوحيد عند الأشعرية .
اعتمد السلف الصالح في اعتقادهم على الاستسلام لأمر الله وتنفيذه على وجه الكمال والتصديق بخبره وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله S من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فالله U أعلم بنفسه ووصفه منا ونحن ما رأيناه وما رأينا له مثيلا فكيف نحكم عليه بعقولنا القاصرة ؟ .
وليس هناك من خيار أمام من يدافع بإصرار عن استخدام عقله في وصف ربه إلا أن يقع في المحذور ويستخدم أقيسة التمثيل والشمول، فيقول: لو كان الله كذا لكان كذا، ويجب عليه كذا لأجل كذا، ولو قلنا في وصفه بكذا لكان كذا وكذا، وهو في حقيقة مبدئه يعتبر ربه فردا من أفراد ذلك القياس ينطبق عليه ما ينطبق على سائر الناس، ولذلك كان مذهب السلف في التوحيد هو قطع الطريق على هؤلاء بمنع الأقيسة العقلية المبنية على اجتهادات فكرية في التعرف على الغيبيات أو كيفية الذات والصفات، سواء كانت أقيسة تمثيلية أو شمولية، وقد تقدم ذلك في ذكر العناصر الأساسية لمذهب السلف الصالح في توحيد الصفات.
لكن إصرار الأشعرية على استخدام حصيلتهم العقلية والتي جمعوها من أفكار فلسفية كلامية يونانية وثنية في وصف الله U وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أداهم إلى أن يصنفوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع أساسية، فقالوا إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له .
وقد ذكر محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت:548ه) في وصف الأشعرية بأنهم أهل السنة والجماعة وأن التوحيد عندهم منقسم إلى الأنواع السابقة .
والسؤال الذي يطرح نفسه على العقلاء: على أي أساس عقلي صنف هؤلاء المتكلمون التوحيد إلى ثلاثة أنواع ؟ هل استندوا إلى حكم العقل بأن الله أعلم بنفسه ووصفه منا فجاء هذا التصنيف مستندا على كتاب ربهم وسنة نبيهم ؟ أو أنهم استندوا إلى عقول الصحابة والتابعين وأئمة السنة المقبولين عند جميع المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم ؟
في الحقيقة لم يستندوا في تصنيفهم للتوحيد لا إلى هذا ولا إلى ذاك، وإنما جعلوا الأمر مشاعا عقليا لكل من يدلي بدلوه في الموضوع فأشبه الأمر استفتاءا شعبيا واستبيانا فكريا لسائر العقلاء كان مضمونه: أيها العقلاء الذين لم تروا ربكم ولم تروا له مثيلا خمنوا وبينوا لنا ما يجب في حق الله وما يجوز له وما يستحيل عليه، وسنأخذ في النتيجة النهائية برأي الأغلبية، لأننا نعلم أنه من المستحيل اتفاق الكل على استفتاء عادي فضلا عن استفتاء فكري، ولكن سنعتبر رأي الأغلبية أصولا عقلية ثم نعتبرها بعد ذلك أصولا لديننا وعقيدتنا.
قبلت مجموعة كبيرة من كبار المتكلمين العقلاء المشاركة في هذا الاستفتاء ثم خرج بعضهم بنتيجة غريبة لا يعرف فيها مقياس لفرز الآراء ولا عدد الذين اتفقوا عليها من ذوي الأصوات الصحيحة، والمهم أن رأيا عاما ظهر في تلك النتيجة نسبوه إلى زعيم من الزعماء هو أبو الحسن الأشعري، وقد ظنوا مخطئين أنه شارك معهم في هذا الاستفتاء، والواقع أنه لم يكن معهم أصلا في ظهور تلك الآراء، لكنهم على كل حال توصلوا إلى هذه النتيجة، واعتبروا أنها تمثل الدستور الحق في باب الاعتقاد وأن من دان بها فهو من أهل الحق وأهل السنة والجماعة، فكان من بنود هذا الاتفاق تصنيف التوحيد إلى ثلاثة أنواع بناء على الحيثيات التالية:
النوع الأول: أن الله واحد في ذاته لا ينقسم وليس له أجزاء وأبعاض لأنه إن كان له أجزاء لم يخل إما أن يكون كل جزء منه حيا عالما قادرا أو كان بعض الأجزاء مختصا بالحياة والعلم والقدرة، فإن كان كل جزء منه حيا عالما قادرا، كان في ذلك إثبات آلهة متعددة ويستدل على بطلانه، وإن كانت الحياة والقدرة والعلم في جزء مخصوص لم يكن الجزء الثاني حيا عالما قادرا لاستحالة وجود العلة في محل وثبوت حكمها في محل آخر ([10]) .
النوع الثاني: أن الله واحد في صفاته لا شبيه له لأنه يخالف الحوادث والحوادث لا تقوم به، والدليل على استحالة قيام الحوادث بذات الباري تعالى أنها لو قامت به لم يخل عنها، ومن لم يخل عن الحوادث فهو حادث، فالرب متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة لا تحيط به الأقطار ويجل عن قبول الحد والمقدار، والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها متحيز، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها، ويرتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان وملاقاة أجرام وأجسام ([11]) .
النوع الثالث: أن الله واحد في أفعاله لا شريك له والدليل على وحدانية الإله دليل التمانع وفحواه كما تقدم أننا لو قدرنا إلهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين، وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين وإرادة الثاني للثاني، فلا يخلو من أمور ثلاثة، إما أن تنفذ إرادتهما، أو لا تنفذ إرادتهما، أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر، والنتيجة النهائية تنفيذ إرادة واحد فقط هو الإله القادر على تحصيل ما يشاء .
كما ظهرت ضمن هذا الاستفتاء الكلامي العقلي بنود أخرى كثيرة تضاف إلى تقسيم التوحيد عند الأشعرية منها:
1 - أن أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وإثبات العلم بالصانع، والدليل عليه إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى، وعلمنا عقلا أنه لا يعلم حدوث العالم ولا الصانع إلا بالنظر والتأمل، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ([12]) .
2 - يجب في حق الله القدم والبقاء والقيام بالنفس ونفي التركيب وهي صفات سلبية، وله سبع صفات نفسية فهو بذاته مريد بإرادة عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام، وهذه كلها معان وجودية أزلية، وقد ثبتت له هذه المعاني بناء على ما جاء في النتائج العقلية التي أختارها أغلب المتكلمين، أن الفعل الحادث يدل على القدرة، والتخصيص يدل على الإرادة، والإتقان يدل على العلم وهذه الثلاثة لا تكون إلا في حي، والحي لا بد أن يكون سميعا بصيرا متكلما ([13]) .
3 - الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي وردت في صفات الله الخبرية موهمة للتشبيه والجسمية وظاهرها باطل مستحيل غير مراد لله في كلامه، فإما أن تؤول وإما أنها من أخبار الآحاد التي لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد ([14]) .
هذا أغلب الآراء التي نتجت عن ذلك الاستفتاء من قبل عقلاء المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، وقد اعتبروها أصول الدين والفيصل المبين في النظر إلى كتاب الله وسنة رسوله S، فما وافق تلك الأصول من النصوص والآيات فهو دليل لهم يقدمونه فقط عند الكتابة في المؤلفات أو عند المحاجة في المخاصمات والمناظرات حتى يشعر المخاطب أنهم يعتمدون على نصوص الوحي في إثبات الصفات والاعتقاد في الغيبيات، وما خالف أصولهم وتقسيمهم للتوحيد فينبغي التعامل معها بأي وسيلة وأن يبذل لها المرء كل حيلة، بادعاء مجاز أو تأويل أو تهوين وتعطيل أو تقبيحها في نفس السامع حتى تبدو ضربا المستحيل، المهم أن يقر بأن ظاهرها الذي ورد في التنزيل باطل ومستحيل ويجب صرفه إلى شيء آخر .

· مناقشة الأشعرية في تصنيفهم التوحيد .
قول الأشعرية في التوحيد إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، فيه ما يوافق ما جاء به الرسول S وفيه ما يخالفه، وليس الحق الذي فيه هو الغاية التي جاء بها الرسول S، بل التوحيد الذي أُمِرَ به أَمْرٌ يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى، فهذا الكلام ضرب من التلبيس والتدليس الذي اختلط فيه الحق بالباطل لأن الإنسان لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ويقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، فإنهم إذا قالوا الله واحد في ذاته لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له، فهذا اللفظ وإن كانت نيتهم تحمل معنى صحيحا، فإن الله ليس كمثله شيء في ذاته أو صفاته أو أفعاله، وهو سبحانه منزه عن تفرق ذاته أو فسادها أو تحولها إلى ذات أخرى، بل هو أحد صمد والصمد هو الذي لا جوف له وهو السيد الذي كمل سؤدده، لكنهم يدرجون تحت هذا التوحيد المزعوم وتحت شعار أنه لا ينقسم نفي علو الله على خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته، ويقولون إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما مشابها للحوادث ([15]) .
قال فخر الدين الرازي وهو من أعمدة المذهب الأشعري في نفي علو الله على خلقه وتعطيل استوائه على عرشه: (لو كان الله مختصا بالمكان لكان الجانب الذي في يمينه يلي ما على يساره، فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة، فيبطل قوله: قل هو الله أحد) ([16]) .
وهم لما نفوا الاستواء وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية ساءت سمعتهم عند عامة المسلمين، فالله يقول صراحة هو على العرش، وهم يقولون صراحة ليس على العرش، فما المخرج من هذه الورطة التي وضعوا أنفسهم فيها ؟
والجواب في قول أحدهم: (لو سئلنا عن قول الله تعالى: } الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَي{ (طه:5)، لقلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو، ومنه قول العرب استوي فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق) ([17]) .
والعجب كل العجب أن قوة احتجاج الأشعرية بهذا البيت على نفي الاستواء أقوى من قوة الاحتجاج بكلام الله على إثباته، مع أن الأخطل النصراني المشرك هو القائل في شعره مستهزئا بالصلاة والصيام والأضاحي:
ولست بصائم رمضان يوما : ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزائر بيتا بعيدا : بمكة ابتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو : قبيل الصبح حي على الفلاح ([18]) .
وهذا تحريف للكلم عن مواضعه في ثوب التأويل، فالتأويل يقبل إن كان بدليل صحيح، لكن العرب لا تعرف أبدا استوى بمعني استولى، بل إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ولم يجعلوه من لغة العرب .
وقال أبو سليمان الخطابي وهو من أئمة اللغة: (وزعم بعضهم أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله، ولو كان الاستواء ها هنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل بقعة من السماوات والأرضين وتحت العرش، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟! ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده !) ([19]) .
فتصنيف النوع الأول من التوحيد عند الأشعرية على معنى أن الله واحد لا ينقسم وأن الواحد هو المجرد عن الصفات تحميل للفظ الواحد ما لا يحتمل وهو ضرب من التحريف.
ومعلوم أن كل تأويل لا يحتمله اللفظ في أصل وضعه وكما جرت به عادة الخطاب بين العرب هو نوع من التزوير والتدليس والخلط والتلبيس الذي يضيع ثوابت القول وقواعد الكلم، فأهل العلم يعلمون أن إثبات الاستواء والنزول والوجه واليد والقبض والبسط وسائر صفات الذات والفعل لا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا ولا انقساما ولا تمثيلا، وكان أولى بالصحابة والتابعين وهم أئمة اللغة وأسياد الفهم أن يعترض واحد منهم على الأقل ويقول: كيف نؤمن بهذه الصفات التي تدل على التركيب والانقسام في الذات الإلهية ؟ ولكن الصحابة والتابعين لم يأت إلى أذهانهم شيء من أصول الكلام عند الأشعرية.
كما أن الكلام في المصطلحات التي أحدثوها كالجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك معاونة على نشر البدع، لأن هذه الألفاظ المبتدعة يدخلون في مسماها الذي ينفونه أمورا مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله S فيقولون: إن الله لا يتكلم بصوت يسمع وإلا كان محلا للحوادث، فكلامه عندهم معنى واحد وإشارات مجملة يفهمها جبريل u ثم يعبر عنها بلغة كل رسول، فإذا عبر عنها بالعربية كان الكلام قرآنا، وإن عبر عنها بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنها بالسريانية كان إنجيلا. وهم في الحقيقة يفرون على ظنهم من تشبيه الله بالمتكلم السوي إلى تشبيه بالأخرس العاجز، فينسب الكمال في القول إلى جبريل u ويسلبه عن رب جبريل .
وبهذه المصطلحات أيضا نفت المعتزلة رؤية الله في الآخرة لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة يكون جسما، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته، وقالت الأشعرية قولا أعجب وأغرب من قول المعتزلة في النفي فقالوا يرى لا في جهة، لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، ولا ندري كيف يفهم مثل هذا الكلام.
وهذه الألفاظ المجملة التي ابتدعوها وأحدثوها كالجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث، ينبغي للمسلم العاقل أن يفصل فيها ويقول: ماذا تريدون بتلك الألفاظ، فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن والسنة قبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك ردت، أو يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا، ولا عليه إن امتنع عن التكلم بها معهم ونسبوه إلى العجز والانقطاع، لأنه إن تكلم بها معهم دون تفصيل نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا، وأوهموا الجهال بموافقته لهم على اصطلاحهم وحينئذ تتخلف المصلحة في بيان الحق .
والواجب والأولى أن يقال: ائتونا بآية من كتاب الله أو حديث من سنة رسوله S حتى نجيبكم إلى هذه الاصطلاحات المحدثة، وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة، فلا يفصل في النزاع بين الناس إلا كتاب وسنة، أما العقول فكل واحد له عقل يختلف عن الآخر، وهم أنفسهم مختلفون متنازعون في أحكام العقل، فما يدعيه أحدهم أن العقل أداه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يكون الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة، وبهذا ناظر الإمام أحمد أبناء الجهمية من المعتزلة لما دعوه إلى المحنة وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم ([20]) .
قال ابن أبي العز الحنفي: (والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق ومن ذلك مخالفتها الكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم، ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال) ([21]) .
وقد تقدم في ذكر مفهوم الألوهية أن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع أشهرها أن الله واحد في أفعاله لا شريك له وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله حتى جعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع .
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد S لم يكونوا يخالفونه في هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون، فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك.
وأما قول الأشعرية إن أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وإثبات العلم بالصانع، واستدلوا لذلك بإجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى، فيقال: هذا الكلام قول على الله بلا علم لقيام الدليل الذي ورد في التنزيل على خلافه، فالصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك، وعند البخاري من حديث ابن عباس t لما بعث النبي S معاذ بن جبل t إلى اليمن قال له: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالى) ([22])، ولم يقل له S ادعهم إلى الشك والنظر حتى يتعرفوا على الله ([23]) .
وأما قولهم بإثبات سبع صفات نفسية وتعطيل باقي الصفات الخبرية فيقال لهم: لم أثبتم قدرته وإرادته وعلمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره مع أنها وردت في الكتاب والسنة، ونفيتم عنه صفة المحبة والرضا والغضب والاستواء والعلو والمجيء وسائر الصفات الخبرية مع أنها أيضا وردت في الكتاب والسنة ؟
قالوا: لأن الصفات التي أثبتناها لا تدل على التشبيه، أما الصفات التي نفيناها تدل على التشبيه .
فيقال لهم: العقلاء لا يقرون هذا، فالقول في الصفات كالقول في بعض، فإما أن تقولوا بالتمثيل الباطل في الذات وجميع الصفات كما فعلت الممثلة وقالت: إرادة اللَّه مثل إرادة المخلوق، ومحبته ورضاه وغضبه واستواءه وعلوه وسائر الصفات الخبرية مثل أوصاف المخلوق ومعلوم أن هذا كذب على اللَّه وقياس باطل محرم، وإما أن تقولوا كما قال أهل التوحيد: إرادة اللَّه تليق به، وإرادة المخلوق تليق به، واللَّه ليس كمثله شيء في إرادته ومحبته ورضاه وغضبه واستواءه وعلوه وسائر الصفات الثابتة في الكتاب والسنة كما هو اعتقاد أهل الحق .
أما أن يأتي صاحب المذهب الأشعري بحجج عقلية سقيمة ينفي بها ما يشاء ويثبت من صفات اللَّه تعالى، فالعقل لن يسأم من مقارعة الحجة بالحجة، فإن قال: نفيت الغضب لأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام وهذا لا يجوز على الخالق سبحانه، قيل له: والإرادة التي أثبتها ميل القلب إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا لا يجوز على الخالق سبحانه وتعالى، فإن قال: هذه إرادة المخلوق، أما إرادة الخالق فليست كذلك، قيل له: وهذا الغضب الذي وصفته غضب المخلوق، أما غضب الخالق فليس كذلك، وهذا لازم في كل صفة أثبتها أو نفاها فالقول في الصفات كالقول في بعض ([24]) .
· أكابر الأشعرية رجعوا لمذهب السلف .
ومن أكبر الأدلة على بطلان المذهب الكلامي في توحيد الله أن أغلب الذين ضيعوا أعمارهم وأفنوا أعمالهم في تقنين المذهب الأشعري وأصوله أعلنوا قبل موتهم حيرتهم وتوبتهم، وأعلنوا ندمهم على ما أسلفوا، فهذا الإمام فخر الدين الرازي في آخر كتابه أقسام اللذات الذي صنفه في آخر عمره قال:
نهاية أقدام العقول عقال : وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا : وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا : سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات: } الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَي { (طه:5} إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ { (فاطر:10)، واقرأ في النفي: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { (الشورى:11) } وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا { (طه:110) ، وقال: } هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيًّا { (مريم:7)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) ([25]) .
وكذلك قال أبو المعالي الجويني: (يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به) ([26] وقال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي) ([27]) .
وقال آخر: (اضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء) ([28]) .
والعجب أنك ترى إصرارا من بعض إخواننا على التمسك بالعقيدة الأشعرية لا تجد له نظيرا، وإذا حاولت بحكم الأخوة أو المشاركة في العمل أن تبين له الحقيقة أو تنصحه بقراءة بعض المؤلفات في العقيدة، تجد صدودا غريبا .
· أبو الحسن الأشعري سلفي المعتقد .
وهاهنا حقيقة هامة ربما تخفى على كثير من الدارسين للمذهب الأشعري تلك الحقيقة التي نستطيع الجزم بها أن أبا الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه جميع الأشعرية في البلاد الإسلامية اليوم يدين لله في أغلب أمور العقيدة بغير ما يدين به هؤلاء، فطريقته في التوحيد طريقة سلفية تنطق بما نطقت به الأصول القرآنية والنبوية، وهذا كتابه الإبانة عن أصول الديانة وهو من أواخر ما كتب في بيان عقيدته، جاء فيه بلا لبس أو غموض أو تعصب أو جمود التصريح بأن عقيدته عقيدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أثبت فيها علو الله على خلقه واستوائه بذاته على عرشه وأنه تعالى في السماء، وأثبت جميع ما ورد في صفات الذات والأفعال على عكس طريقة الأشعرية في عصرنا المنتهجين لطريقة الجهمية والمعطلة .
قال رحمه الله: (فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة، فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافعة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا U وبسنة نبينا محمد S، وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم وكبير مفهم)([29]) .
ثم سرد عقيدته التي يدين بها، وقد جاء فيها أن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد ([30]).
وقال رحمه الله عن عقيدته في الاستواء وعلو الله على خلقه: (إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له: نقول إن الله U يستوي على عرشه استواء يليق به كما قال:} الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَي { (طه:5)، وقد قال تعالى: } إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ { (فاطر:10 وقال تعالى: }بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ{ (النساء:158)، وقال تعالى: }يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ{ (السجدة:5)، .. وقال تعالى:} أأمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ { (الملك:16 فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال:} أأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ {لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات .
وليس إذا قال:} أأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ {، يعنى جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى الله تعالى ذكر السماوات فقال تعالى:} وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا { (نوح:16 ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعا وأنه فيهن جميعا، ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله U على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قول الله تعالى:} الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَي { (طه:5) أنه استولى وملك وقهر، وأن الله تعالى في كل مكان وجحدوا أن يكون الله U مستو على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة .
كما أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله أثبت من الصفات الخبرية التي وردت في النصوص القرآنية والنبوية ما يعتبره الأشعرية من بعده حتى اليوم تشبيها وتجسيما وشركا وظاهرا باطلا مستحيلا، يجب صرفه بالتأويل إلزاما على أصحاب المذهب فقال: (وأن له سبحانه وجها بلا كيف كما قال: } وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك َ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام { (الرحمن: 27 وأن له سبحانه يدين بلا كيف كما قال سبحانه: } خَلَقْتُ بِيَدَيَّ { (ص:85)، وكما قال: } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ { (المائدة:64) وأن له سبحانه عينين بلا كيف كما قال سبحانه: } تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا { (القمر:14)) ([31]).
وقال أيضا: (قد سئلنا أتقولون إن لله يدين ؟ قيل: نقول ذلك بلا كيف، وقد دل عليه قوله تعالى: }يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ{ (الفتح:10)، وقوله تعالى: }لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ { (ص:85).. فثبتت اليد بلا كيف .. وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي ويعني به النعمة، وإذا كان الله U إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها، ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي ويعني النعمة بطل أن يكون معنى قوله تعالى: بيدي النعمة) ([32]).
وقال أيضا: (ويقال لأهل البدع: ولم زعمتم أن معنى قوله: بيدي نعمتي، أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة ؟ فلا يجدون ذلك إجماعا ولا في اللغة، وإن قالوا: قلنا ذلك من القياس، قيل لهم: ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى: بيدي لا يكون معناه إلا نعمتي ؟.. إلى قوله .. وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله تعالى: بيدي إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت) ([33]).
فأين هذا ممن يوجب تأويل الصفات بحجة أنها موهمة للتشبيه والجسمية ويجب تأويلها بأي صورة لغوية أو يسأل عن الاستواء ويصر على أن معناه استيلاء وقهر وأنه سبحانه في كل مكان وليس على عرشه كما ورد في الكتاب والسنة .

منقول من كتاب أصول العقيدة في توحيد الأسماء والصفات وعقيدة السلف الصالح في الغيبيات للدكتور محمود عبد الرازق الرضواني أستاذ العقيدة الإسلامية بجامعة خالد بالسعودية سابقاً وعميد دار العقيدة المصرية للتعليم عن بعد

(1) انظر بتصرف إغاثة اللهفان لابن القيم 1/ 27 .

(2) شعب الإيمان للبيهقي 1/35 .

(3) مفتاح دار السعادة 1 /40.

(4) قاعدة في المحبة ص 155.

(5) التوقيف علي مهمات التعاريف للمناوي 2/322، والمفردات للراغب الأصفهاني ص156 .

(6) الفصل في الملل والنحل لابن حزم الأندلسي 4/88، ومنهاج السنة النبوية 1/494 .

(7) الملل والنحل 1/42 .

(8) مسلم في الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله 4/2289 (2985) .

(9) تيسير العزيز الحميد ص17 وما بعدها بتصرف.

(10) لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ص 98 بتصرف .

(11) السابق ص 106.

(12) الغنية في أصول الدين ص55 .

(13) انظر بتصرف رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص 17 وما بعدها، كتاب أصول الدين ص63، لجمال الدين أحمد بن محمد بن سعيد تحقيق عمر وفيق الداعوق، نشر دار البشائر الإسلامية، بيروت سنة 1998.

(14) انظر بتصرف المختار من شرح البيجوري علي جوهرة التوحيد ص 109.

(15) درء تعارض العقل والنقل 1/225 وما بعدها بتصرف .

(16) انظر أساس التقديس الفخر الرازي ص 203 .

(17) انظر لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ص 108 بتصرف، الشاعر هو الأخطل النصراني الحاقد علي الإسلام والمسلمين، قال ابن كثير في التعقيب علي هذا البيت: (هذا البيت تستدل به الجهمية علي أن الاستواء بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل علي ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه علي عرشه استيلاءه عليه، ولا نجد أضعف من حجج الجهمية حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلي بيت هذا النصراني المقبوح) انظر البداية والنهاية 9/295 .

(18) انظر السابق 9/263، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 7/36 لابن الجوزي، تحقيق محمد ومصطفي عبد القادر عطا، نشر دار الكتب العلمية بيروت سنة 1412هـ .

(19) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لابن تيمية 2/438، نشر مطبعة الحكومة، مكة المكرمة سنة 1392، وانظر مختصر الصواعق المرسلة علي الجهمية والمعطلة لابن القيم الجوزية 1/37 وما بعدها حيث فند العلامة ابن القيم ادعاء الأشعرية بأن الاستواء بمعني الاستيلاء من اثنين وأربعين وجها وبين ضلال من اعتقد ذلك .

(20) درء تعارض العقل والنقل 1/232 بتصرف .

(21) شرح العقيدة الطحاوية ص74 .

(22) البخاري في الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة 2/529 (1389) .

(23) شرح العقيدة الطحاوية ص75 بتصرف .

(24) مجموع الفتاوى 3/17، 5/195 بتصرف .

(25) نقلا عن شرح قصيدة ابن القيم 1/208 .

(26) شرح العقيدة الطحاوية ص 227.

(27) السابق ص 227.

(28) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في العقيدة 4/28 .

(29) الإبانة عن أصول الديانة ص19، تحقيق الدكتورة فوقية حسين نشر دار الأنصار القاهرة 1397 .

(30) السابق ص21 .

(31) السابق 22 .

(32) السابق ص125 .

(33) السابق ص128: ص133.



عمر محمد غير متواجد حالياً  
قديم 12-01-2012, 01:00 AM   #2
محمد محمود محمد احمد
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Dec 2012
المشاركات: 13
معدل تقييم المستوى: 0
محمد محمود محمد احمد is on a distinguished road
افتراضي رد: دروس في العقيدة الإسلامية 7

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
محمد محمود محمد احمد غير متواجد حالياً  
قديم 09-24-2015, 08:47 PM   #3
ابو نضال
عضو متألق
 
تاريخ التسجيل: Sep 2015
المشاركات: 2,255
معدل تقييم المستوى: 11
ابو نضال is on a distinguished road
افتراضي رد: دروس في العقيدة الإسلامية 7



بسم الله الرحمن الرحيم


بارك الله بك على هذا الطرح القيم
كان موضوعك رائعا بمضمونه

لك مني احلى واجمل باقة ورد




وجزاك الله خيرا وغفر لك ولوالديك وللمسلمين جميعا



لا اله الا الله محمد رسول الله


ابو نضال غير متواجد حالياً  
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دروس في العقيدة الإسلامية 1 عمر محمد منتدى العقيدة الإسلامية 8 09-24-2015 10:48 PM
دروس في العقيدة الإسلامية 2 عمر محمد منتدى العقيدة الإسلامية 1 09-24-2015 10:40 PM
دروس في العقيدة الإسلامية 9 عمر محمد منتدى العقيدة الإسلامية 3 09-24-2015 08:39 PM
دروس في العقيدة الإسلامية 10 عمر محمد منتدى العقيدة الإسلامية 2 09-24-2015 08:36 PM
دروس في العقيدة الإسلامية 11 عمر محمد منتدى العقيدة الإسلامية 1 09-24-2015 08:31 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة للمسلمين بشرط الإشارة لشبكة الكعبة الإسلامية
جميع الحقوق محفوظة لـ شبكة الكعبة الإسلامية © 2018