الموضوع: سورة آل عمران.
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2014, 09:45 AM   #5
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

وإذا كانت قريش قد انتصرت فى هذه المعركة، فهو انتصار عابر زائل، وسوف تتغير هذه النتيجة حتما، والمستقبل للإيمان وحده. على أن انتصار المؤمنين يحتاج إلى أمرين: صدق النية وحسن الأداء. ولا يغنى أحد الأمرين عن الآخر. والمسلمون فقراء إلى معرفة الأمر الثانى وتوكيده، فإن بعضهم يتخيل أن الصلاح وحده يحقق النتيجة المرجوة، كأن الملائكة ستنزل لجبر القصور فى إعداد المؤمنين للمعركة أو سوء خوضهم لها، وهذا بعيد. ابذل ما لديك كله إيمانا وعملا، إخلاصا ومهارة، ثم ارتقب الخير ولو كانت قواك أقل، فقد بذلت ما تملك، ولن يخذلك الله بعدئذ... وقد راقبت معارك كان فيها الخصمان كالملاكمين المتكافئين، لا ينهزم أحدهما إلا بعد عشر جولات أو أكثر.. وراقبت أخرى ينهزم فيها أحد الخصمين بالضربة القاضية على عجل... وشر المعارك أن يكون المرء معتلا، إذا لم يقع لقوة عدوه، وقع لخور فى نفسه!! أو أن يكون سيئ الحظ فتزل قدمه، أو يختلج عرق فى بدنه فيتراجع!! ومعارك المسلمين على امتداد التاريخ تتعرض لهذه الأنواع، على أن العلة الدائمة لهزائمهم لا تجئ من كلب العدو عليهم قدر ما تجئ من تفرق كلمتهم، واختلال صفوفهم، فمصائبهم من أنفسهم دائما، فإذا صحوا من غفوتهم رجعت لهم الدولة. وهذا ما أكدته السورة هنا " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين " . وقصة الحياة حكاية لهذا الصراع الدائم بين مختلفين فى الرأى والسلوك " ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فالشر ابتلاء للخير، والقبح امتحان للجمال، واللؤم امتحان للشرف " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " . كان ربك قديرا أن يهزم الباطل ويخزى أهله، فما عمل أهل الحق عندئذ؟ وما جهادهم الذى يلقون به ربهم؟ " ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " . 40
ص _041
ومضت سنة الأنبياء وأتباعهم من صدر التاريخ على هذه الوتيرة، فما قام لله معبد ولا عمر له مسجد إلا بكفاح المؤمنين وبذلهم! " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره.. " . وقد ذكر الله أتباع محمد بهذه الحقيقة التاريخية، عندما عزاهم فى مصابهم بأحد فقال : " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " . ومضت السورة تداوى الجراح وتنشط العزائم، وتعيد للمؤمنين تماسكهم وثقتهم! ولا يجوز أن ننسى هنا أن دور الهزيمة فى معركة أحد كشف عن معادن بالغة النفاسة، فهناك رجال ركلوا الدنيا بنعالهم ومضوا إلى الله لا يلوون على شئ..!! وهناك رجال ثبتوا فى مواقف ميئوس منها لا يحملهم على الثبات إلا الوفاء إلى آخر رمق، وهناك نساء انطلقن إلى معارك ملؤها البطولة والفداء، يتقاعس عنها الواهنون، وتطير إليها أولئك المؤمنات الصامدات.. وهناك من رزق الشهادة وهو لاغب يحمل أعباء الكفاح برجولة رائعة لا تعنيه إلا نصرة الله ورسوله. وهناك وهناك، إنها معركة حفرت ذكرياتها فى ضمائر المؤمنين فما تنسى أبدا.. وبقى ذكر أحد فى قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى آخر عمره، فهو يصلى على شهدائه ويقول: "أحد جبل يحبنا ونحبه ". الشهادة منزلة رفيعة من الرضوان الأعلى، يصطفى الله لها من يشاء من عباده، ولذلك قال فى هذه السورة : "ويتخذ منكم شهداء.... " والملحوظ أن المختارين لهذه المكانة مؤمنون همهم الأكبر إعلاء كلمة الله، والإصباح والإمساء فى دعم الإسلام وحماية بيضته ورد العدوان عنه. وقتلى أحد نماذج فريدة لهذا الخلق الواثق الواضح، تدبر سيرة مصعب بن عمير أنعم فتيان مكة، الذى اعتنق الإسلام فحرم ثروته وعضه الفقر بنابه، فإذا هو يلبس ثوبا من جلد الضأن، بعد أن كان يخب فى الحرير!

ص _042
ثم هاجر قبل المهاجرين مكلَّفا من رسول الله بنشر الإسلام فى المدينة، فلم يدع بيتا ذا شأن حتى أدخله فيه، وها هو ذا يقتل فى أحد غريبا، عليه ثوبا لا يكمل كفنا لجثمانه الطاهر، فتغطى قدماه بالإذخر!! وتدبر سيرة عبد الله بن حرام، وكان أبا لست بنات وغلام واحد ـ هو جابر بن عبد الله ـ فقال لابنه: لا تترك الفتيات الست دون رجل معهن!. ولا تطيب نفسى بأن يخرج الرسول للقتال وأنا جالس فى بيتى! فابق أنت معهن، وأنا ذاهب للقتال، وذهب الرجل ليستشهد فى المعركة! لقد كان وضع المسلمين مكشوفا بالغ الحرج بعد ما ترك الرماة مواقعهم، ولذلك قتل منهم سبعون بطلا فى دفاع كئيب شاع فيه أن الرسول نفسه قتل..! لكن قريشا وجدت أنها تصطدم بحائط من الصلب، وأنها لن تبلغ أكثر مما بلغت، فجمعت رجالها وعادت أدراجها إلى مكة.. ونزل فى مصاير الشهداء قوله تعالى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " فوصفهم بخمس صفات " (1) بل أحياء (2) عند ربهم (3) يرزقون (4) فرحين بما آتاهم الله من فضله (5) ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون" . إن الله أعلم أولئك الشهداء أن إخوانهم وأولادهم على درب الحق، وأنهم أدوا واجبهم فى نصرة الله ورسوله، وأنهم - عن قريب - سوف يلحقون بهم فى دار النعيم. ومن المفيد أن نذكر ما فعل المسلمون بعد الهزيمة العارضة، فقد جمعوا فلولهم، وتحاملوا على جراحهم، وانطلقوا فى طريق مكة يطاردون جيش الكفر الذى كان يمشى متباطئا يحدث نفسه بعودة لاستكمال ما بدأ، فلما شعر بالمسلمين قادمين سارع فى العودة من حيث جاء. وعاد المسلمون كما وصف الوحى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم" . وينقطع التعليق على غزوة أحد مؤقتا، ليتصل الحديث مرة أخرى عن اليهود، ونلاحظ هنا أن السياق صار مزدوجا إلى آخر السورة، فهو تارة يتناول اليهود، وتارة يتناول عبدة الأوثان، ولا عجب فجهاد الدعوة يتناول الفريقين على سواء كما قال جل شأنه
ص _043
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً